بمزيد من الرضا بقضاء الله وقدره أسرة المنظمة السورية لحقوق الإنسان “سواسية” تنعي وفاة عضو مجلس إدارتها الدكتور مجمد طيب تيزيني الذي وافته المنية بالأمس في مسقط رأسه حمص، للراحل الكبير الرحمة وللشعب السوري طول البقاء
إننا في المنظمة السورية لحقوق الإنسان إذ نعزي أنفسنا وشعبنا الأبي والتراث الانساني بانتقال تلك الهامة الفكرية والأدبية الباسقة إلى دار الخلود فإننا وللإنصاف من باب المطلع نسلط الضوء على جملة الحقائق التالية:
في هذه العجالة لن أتطرق لما هو معروف لدى الجميع عن الجانب العام من شخصية الراحل و المتعلقة بمكانته العلمية و الأدبية بصفته أحد أهم مائة فيلسوف في عصره لاسيما و أن مكتبة التراث الفكري العالمي تذخر بمؤلفاته بالعربية و الألمانية و إسهاماته في التراث الفكري و الإنساني. كما لن أتطرق للجانب الخاص من شخصيته و أتحدث عن تواضعه و دماثة خلقه و قربه من الناس و إيمانه بشعبه و قدرته و جدارته الحضارية فيما لو أتيحت له الفرصة التاريخية و لعل جولة بسيطة على وسائل التواصل الاجتماعي تثبت وفاء السوريين لرموزهم الوطنية و الهوة السحيقة التي خلفها فراقه في بنية و نسيج المجتمع السوري.
لكننا سنسلط الضوء على بعض الجوانب التي يجهلها الناس عنه رحمه الله من خلال تجربتنا المشتركة في العمل العام في المجال الحقوقي والانساني من خلال المنظمة السورية لحقوق الإنسان و الصدام مع سلطة الأمر الواقع في دمشق قبل و بعد تأسيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان.
أولاً : الدكتور الطيب مثقف حر.
لمع نجم الدكتور الطيب التيزيني و ذاع سيطه في الأوساط العلمية و الأكاديمية على مستوى دولي في الثمانينات، الأمر الذي أغرى الأسد الأب لاستقطابه، فطلب من أحد العاملين لديه التواصل معه و إعلامه بنية الرئيس تعينه مستشاراً ثقافياً له.
إتصل معه الدكتور إسكندر لوقا و هو يكاد يطير من الفرح و يزف له البشارة و التي كانت تعني في ذلك الوقت راتب من القصر بحدود ثلاثين ألف ليرة شهريا بالإضافة إلى سيارة رسمية من أفخم نوع بالإضافة لإمكانية الاستفادة من السكن المجاني في أحد مشاريع القصر الجمهوري التي كانت توزع فيها المنازل على المقربين.
هذا طبعا عدا صرف النفوذ والاستيلاء على المناصب العليا سواءاً في الجامعة أو الدولة بالإضافة لمنصب الوزارة التي تلوح بالأفق.
قبل الدكتور الطيب في ذلك الوقت المهمة على مضض اعتقادا منه أنه بقبولها يمكن له أن يؤثر إيجابيا على عقلية و نفسية الديكتاتور الأب و يحمله لتقديم المكاسب الإنسانية للناس.
لم يمضي نيف من شهر بعد استلامه الوظيفة الجديدة حتى طلبوا منه إعداد محاضرة لإلقائها ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي المتزامن مع معرض الكتاب في مكتبة الأسد.
و كان مقررا في هذا الأسبوع الثقافي إلقاء سبعة محاضرات من قبل سبع محاضرين باختصاصات مختلفة و كل منهم يتحدث عن شخصية الأسد كقائد استراتيجي من جهة اختصاصه و كان دور الدكتور الطيب في ذلك الوقت إلقاء محاضرة تتحدث عن الأسد الأب بصفته مثقف استراتيجي بارز.
تلعثم الدكتور الطيب بالمهمة الجديدة و اتصل بمندوب القصر الجمهوري و طلب إليه نسخة عن انتاج الرئيس الأسد الفكري و الثقافي كي يتمكن من تقييمه، فرد عليه بالقول أنت تعرف ان السيد الرئيس لا يملك وقتاً لتأليف الكتب لكن بإمكانك دراسة خطاباته و الاستعانة بها للولوج لأغوار فكره الفريد و بعد جدل قال له : بإختصار المحاضرة المطلوبة عبارة عنها صفحتين و كلما تردد بين السطور إسم السيد الرئيس أكثر، كلما ضجت القاعة بالتصفيق أكثر و كلما كانت المحاضرة أنجح.
أدرك الدكتور طيب في ذلك الوقت الهوة التي وقع فيها و رغم محاولاته التأقلم مع الوضع الجديد إلا أن هاجساً انتابه أنه سيعود لمنزله في أعقاب المحاضرة و ينتحر.
فما كان منه إلا أن قرر فجأة أن يلوذ بالفرار و يحتمي بقريته ” تيزين ” التي اتصل منها بمندوب القصر الجمهوري و أعلمه باستقالته و أنه يعلم أنه سيطرد من الجامعة لذلك قرر العودة إلى قريته ليمضي ما تبقى له فيها بعيدا عن الناس.
قامت الدنيا و لم تقعد في دمشق و قد تقرر إلغاء الأسبوع الثقافي بمجمله قبل أيام من انعقاده في حين ظل الدكتور التيزيني رحمه الله متوارياً عن الأنظار
بعد نيف من شهر اتصل به مندوب القصر و أعلمه أن الرئيس يريد مقابلته فعاد إلى دمشق و ذهب للمقابلة بوسائل النقل العامة و استقبله الأسد الأب شخصياً في بيته و حاول أن يكون ودوداً معه و حضرت ابنته جانب من المقابلة التي تحدث فيها الأسد نشأته الريفية الفقيرة و محطات حياته وصولاً لصراعه على السلطة و كيف تمكن من القضاء على خصومه السياسيين و كيف تمكن من الإطاحة بهم و استفرد بالحكم و في نهاية حديثه طلب من الدكتور طيب أن يتحدث عن نفسه و عن ظروفه الحياتية و المعاشية فأخبره أنه بخير و أنه يقيم في منزل يملكه ” و كان في ذلك الوقت يسكن في ملحق عبارة عنه غرفتين على سطح إحدى المباني في مدينة حرستا بالقرب من دمشق ”
سأله الأسد وكيف انتقلت إلى هنا فقال له الدكتور طيب بسيارتي التي تتسع لسبعين راكباً و أنا سعيد معها حينها فهم الأسد أن الحديث معه لا جدوى منه فإنهى المقابلة على عجل و طلب من مندوب القصر الذي كان ينتظر بالخارج مرافقته للطريق العام… قال لي الدكتور طيب ” رحمه الله ” كانت تلك الليلة التي خرجت فيها من المقابلة بدون صفقات من أجمل ليالي العمر فقد انتهت الطامة التي كادت تحيق بي و تلتف على عنقي و تكبس على أنفاسي إلى غير رجعة فقد أصبح مفهوماً أن هذا الرجل ليس للبيع.
ثانيا : الدكتور الطيب مثقف إيجابي محب لشعبه و مؤمن به.
لعل أهم ما يميز الدكتور التيزيني أنه قارئ جيد لمسار حركة التاريخ و من خلال ذلك تمكن من استشفاف الأفق المستقبلي القادم على سوريا جراء القهر و الظلم و الاستبداد و في سبيل تجنب هذا المصير أمضى ما تبقى من حياته و هو يبذل قصارى جهده كي لا تصل إلى ما آلت إليه الأمور فيما بعد.
في سبيل ذلك حاولنا مرارا وتكرارا إقناع النظام السوري بمؤسساته الأمنية بأننا لسنا سياسيين و إنما مجموعة مثقفين و أكاديميين نختلف عنهم في أننا اجتمعنا على حب الوطن و ليس على عبادة رئيسه، و أننا حريصين على مسافة أمان منهم بما يحول دون وضعنا في الجيب الصغير، و بذات الوقت لسنا في مواجهتهم كخصوم سياسيين، إلا أن خيارنا هو الانحياز للطرف الضعيف المغلوب على أمره في محاولة منا للدفاع عنه و تلمس رؤاه و التعبير عنها في إطار الدستور و القانون.
وتحملنا في سبيل تحقيق هذه المعادلة الصعبة على عقلية نظام شمولي غاشم الكثير على جميع المستويات و كم حاولنا تحذيرهم من أن الزلزال المجتمعي في سوريا قادم ما لم يتم تداركه بالمكاسب الإنسانية و الانفراجات القانونية و الدستورية و أنه سيخلف في حال حدوثه هوة مجتمعية سحيقة لا يمكن رأبها بسهولة في مستقبل الأيام،
لكن طبقة أمنية و سياسية أسكرتها السلطة المطلقة و انتشت بها و أعمت بصيرتها احتكار القوة الغاشمة و المال السياسي بالإضافة لاستحواذها على الحقيقة المطلقة كانت أبعد ما تكون عن أن تفتح عقلها و قلبها لنا.
أذكر ندوة أو مناظرة للدكتور الطيب في مقر نقابة المهندسين بحضور الكاتبة كوليت خوري و وليد المعلم الذي أصبح وزيرا للخارجية، حينها تحدث الدكتور الطيب عن ضرورة فتح الدائرة من الداخل و ذلك بمشروع وطني جامع ” و يقصد الدستور ” على أن يشارك به جميع ألوان الطيف المجتمعي السوري و أذكر كيف تصدى له وليد المعلم مدافعاً عن المادة الثامنة في ذلك الوقت و قال بالحرف الواحد إن إي إصلاح أو انفتاح في حال وجوده إنما هو ما تقرره القيادة السياسية الحاكمة فقط دون أي حق للمشاركة العامة بها.
في هذه النقطة كان يتجلى الخلاف ما بين الشخصيتين فالطيب التيزيني فيلسوف كبير لكنه أحب السوريين و عاش بينهم و آمن بهم و لم يقبل على نفسه أن يتربع على هضبة فكرية أو معرفية بعيدا عنهم في حين أن خيارات وليد المعلم هي الانكفاء على نفسه في عالم السلطة المغلق و النظر للناس من الأعلى و التماس الرضا من شخص سيده و مولاه.
و كان من الطبيعي على سلطة بهذه المواصفات أن تضيق ذرعاً بنا و أن تلجأ لخياراتها المعتادة و حلولها السهلة فتم اعتقالي و التنكيل بي و إحالتي لمحاكم الجنايات بسبع تهم جنائية الوصف بالإضافة لتحريك الدعوى المسلكية بحقي من قبل نقابة المحامين بأوامر من المخابرات و استصدار قرار بحقي بمنعي من ممارسة المحاماة مدى الحياة، بالإضافة للضغط بكافة الوسائل على أعضاء مجلس إدارة المنظمة فتم إبلاغ الدكتور صادق العظم رحمه الله خطياً بضرورة إنهاء عمل المنظمة السورية و بذات الوقت التضييق على أعضاء مجلس الإدارة بمختلف الأساليب الوضيعة و صولاً للاعتداء على السلامة الجسدية عليهم بما في ذلك الدكتور الطيب و الصحفية منتهى الأطرش.
ثالثاً : الطيب التيزيني مات حزينا لأن جميع جهوده التي بذلها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا اصطدمت بعقلية نظام أحمق.
لقاء مصور مع الدكتور طيب التيزيني – لقاء اليوم
أذكر في أعقاب اندلاع ثورة الكرامة في سوريا واشتراكه في الحوار الذي دعا إليه نائب الرئيس في ذلك الوقت فاروق الشرع و حديثه عن حرمة الرصاص و ضرورة إخراج المساجين و تفكيك الدولة الأمنية المهيمنة و إطلاق الحريات العامة و التأسيس لدولة القانون بعدها بأيام تمت دعوته من قبل الأسد الابن للقاء و الحقيقة أنه لم يبح لي و لا لغيري بما جرى في هذا اللفاء، لكني على يقين أنه خرج من ذلك اللقاء مطرودا بعد أن فقد الأسد الابن أعصابه و جميع المؤشرات تؤكد أنه طالبه بالاستقالة إنقاذا لسوريا من مصير أسود محتوم فيما لو استمر بعقلية صاحب الحق المكتسب بالحكم، و بعدها بأيام اعتقلت أجهزة المخابرات أولاده و أعادوهما إليه بعد أيام و هما في وضع يرثى له من شدة التعذيب و حينما عرضت عليه ردة فعل قوية من قبل المنظمة رفض و قال لي بانكسار ” الناس في سوريا سواسية في القهر”
و شاءت الأقدار أن تتحقق نبؤه شيخ الفلاسفة في آخر أيامه فقد رأى المدن و المحافظات السورية تمحى عن الخريطة الواحدة تلو الأخرى و الشعب السوري يركب البحار و القفار هرباً من القصف بالكيماوي و البراميل المتفجرة.
لقد رأي بأم عينه سوريا ذات السبعة آلاف ربيعاً تقسم إلى مناطق نفوذ و كنتونات و تتحكم بها مليشيات صفوية و أخرى روسية و عصابات شيعية بينما الأسد الابن مازال متشبثاً بما بقي له من كرسي كان قد ورثه عن أبوه بالحديد و النار .
لله درك أيها الشيخ النبيل كم تحمل قلبك الكبير المفعم بحب الناس مأسي و أحزان و كم فاضت عيناك بالدموع على السوريين الذين باتوا في الشتات و العراء .
سيذكرك التاريخ بما أنت أهله فالتراث الإنساني يفيض برؤاك وأفكارك و ابداعاتك.
في حين سيتبؤء القتلة و السفاكين المغتصبين للسلطة في دمشق مكانتهم اللائقة بهم في صدر مزبلة التاريخ.
عهدا علينا أن نسير على دربك بالنزاهة و العفاف و التضحية و الإصرار و ستجدنا يوماً نتحلق حول مثواك الطاهر في عاصمة الثورة السورية لنستلهم من ذكراك و نستنشق عبير ثراك و نقول ها قد تحقق الحلم أيها النبيل.
المحامي مهند الحسني
رئيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان
اترك تعليقاً